لقد كان كلامي في هذا الكتاب أشبهَ بزفرة، صدرت من أعماق الأحشاء، تفيض غضبا وحزنا، مِن واقع مقلقٍ لكل ذي غيرة، حاولت فيها أن التزم صف كشف ما وراء مظاهر فساد طغى واستشرى؛ وأنا أحاول الإجابة عن سؤالٍ محرق حول السبب الذي يجعل مؤشر التنمية عندنا لا يتقدم أو يرقى، رغم كل الجهود الكبيرة التي تبذلها الدولة. واجتهدت، في هذا المنحى، كي ألامس بعض العلل الكبرى، الكامنة في العلاقة بين التنمية والإدارة والسياسة إلى حدٍّ ما، مُركزا على الجذور الثقافية والنفسية لسلوكنا العام في أكثر من مستوى.

فمدار الكلام هنا، أن التنمية في أساسها النفسي هي بذل جهد ومجاهدة للالتزام بنوع من السلوك القائم على الإبداع في الفعل المسؤول والمعطاء. وهي معركة يحكمها قرار نابع من داخل الذات، حيث لا يمكن كسب رهانها إلا بالقطع مع سلوك مشين، يمكن أن تعبر عنه باستعارة سلوك آفة القُراد، وما يحيل عليه من أنانية وانتهازية وميل إلى تخريب وتدمير أو إهمال كل ما هو مشترك بيننا.

إنها، بعبارة أخرى، الظاهرة القرادية، التي توقفت عند بعض تجلياتها في الإدارة، وكما هي في سلوكنا الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الحزبي، الذي توقفت عنده باعتباره شكل مجالا لبروز واستشراء ذلك السلوك المشار إليه. وفي هذا السياق، فإني آمل، من وراء هذه المحاولة المتواضعة، أن تكون إسهاما في الإجابة عن سؤال التغيير والإصلاح في مجتمعاتنا، والكشف عن بعض المعوقات التي تعوقنا عن حسن استثمار فرص وإمكانات صناعة أثر الإصلاح، وذلك بما تتضمنه هذه المحاولة مِن أفكار نظرية عامة، قد تفيد في بلورة الوعي بضرورة ترشيد أي عمل إصلاحي عام، بعيدا عن الوصفات النموذجية الجاهزة، من جهة، ونشر ثقافة النقد الذاتي لسلوكنا العام، قصد الوعي بعيوبنا في أفق تجاوزها وإصلاحها، من جهة أخرى.